توترات إيران وإسرائيل: مركز الصراع على القوة العالمية
د. مسيح الدين إنعام الله
مقدمة
يُصوَّر الصراع بين إيران وإسرائيل غالبًا على أنه نتيجة عداوات أيديولوجية وتاريخية طويلة الأمد. ورغم أن لهذا التصوير بعض الوجاهة، إلا أنه يتغافل عن عمق وتعقيد الواقع. فهذه المواجهة ليست مجرد خصومة ثنائية أو نزاع إقليمي، بل تمثل نقطة اشتعال استراتيجية داخل صراع جيوسياسي أوسع، يتضمن تحولات في موازين القوى العالمية، وتحالفات ناشئة، واستقطابات جديدة. ولا يمكن فهم خطورة هذا الصراع دون الرجوع إلى السياقات التاريخية والتحولات الجارية في النظام الدولي.
إسرائيل كمحور إمبريالي نيوكولونيالي في الشرق الأوسط
منذ الحرب الباردة، لم تقتصر وظيفة إسرائيل على كونها فاعلًا إقليميًا، بل تحولت إلى أداة مركزية ضمن المخطط الإمبريالي للغرب، وخاصة الولايات المتحدة. فهي تمثل قاعدة متقدمة لإسقاط النفوذ الغربي داخل الشرق الأوسط، تلك المنطقة ذات الأهمية الحيوية من حيث الطاقة والموقع الجيوستراتيجي والدلالة الدينية.
وقد تجلى هذا الدور بوضوح في حرب الخليج عام 1991، التي اندلعت إثر غزو العراق للكويت، وردّ التحالف الدولي بقيادة واشنطن في “عاصفة الصحراء”، والذي أسس لوجود عسكري غربي دائم في المنطقة. وتبِع ذلك غزو أفغانستان والعراق، وخلق وتوظيف جماعات متطرفة مثل “داعش”، تحت شعار “الحرب على الإرهاب”، بينما كان الهدف الحقيقي يتمثل في إعادة رسم خريطة النفوذ واحتواء القوى المناوئة.
تحولات القوة العالمية وصعود التكتلات الجديدة
شهد القرن الحادي والعشرون تراجع الهيمنة الأحادية القطبية التي تزعمتها الولايات المتحدة. فقد صعدت الصين بقوة كقوة عظمى اقتصادية وسياسية، وجاء مشروعها “الحزام والطريق” ليقدم نموذجًا عالميًا بديلًا يتحدى النظام النيوليبرالي الغربي.
وفي الوقت ذاته، تنامت تحالفات مثل “البريكس” (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا)، وازدادت جرأة “الجنوب العالمي” في فرض رؤيته وتطلعاته، مما غيّر في موازين القوى الدولية. وكان لا بد أن تنعكس هذه التحولات على الشرق الأوسط، فتحوّل إلى ساحة رئيسية للصراع بين مشاريع متنافسة.
الربيع العربي وإعادة تشكيل التحالفات الإقليمية
أشعلت الانتفاضات الشعبية في عام 2010 ما عُرف بالربيع العربي، مطالِبة بالحرية والعدالة الاجتماعية. لكن هذه الثورات سُرعان ما تحولت إلى صراعات معقدة استغلتها قوى إقليمية ودولية. وقد تغيّر دور إسرائيل في هذا السياق من فاعل إقليمي إلى شريك استراتيجي في الحسابات الجيوسياسية الكبرى.
شهدت المنطقة أحداثًا مثل الانقلاب على الحكومة المنتخبة في مصر، والأزمة الخليجية بقيادة السعودية ضد قطر، والصراع على النفوذ بين تركيا ودول الخليج. لم تكن هذه أحداثًا معزولة، بل حلقات في مشروع أوسع للسيطرة على مخرجات الثورات وتوجيه مساراتها بما يخدم مصالح القوى المهيمنة.
حروب الوكالة وتشظي الجبهات
الحرب التي تقودها السعودية في اليمن، والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على غزة، والحرب السورية، والأزمة في لبنان—كلها تمثل جبهات لحروب بالوكالة ضمن صراع شامل يستهدف تفتيت القوى المعارضة، وترسيخ التحالفات، وإعادة هندسة التوازنات لصالح الغرب وحلفائه.
وحتى الحرب في أوكرانيا، رغم بعدها الجغرافي، تدخل ضمن هذا السياق، نظرًا لتأثيرها على أسواق الطاقة وخريطة التحالفات الدولية. تزامن هذه الحروب ليس مصادفة، بل يعكس استراتيجية عالمية لإعادة تشكيل النظام الدولي من خلال إدارة الأزمات المستدامة.
إيران: اللاعب المحوري في النظام العالمي الجديد
في قلب هذا المشهد، تبرز إيران كلاعب محوري. لم تعد مجرد خصم أيديولوجي لإسرائيل أو دولة مارقة وفق التصنيفات الغربية، بل باتت تمثل نموذجًا لمقاومة الهيمنة الغربية، وتستند في ذلك إلى تحالفات مع فواعل غير حكومية ونفوذ استراتيجي في الخليج وبلاد الشام.
علاقات طهران بحزب الله والحوثيين وفصائل في العراق وسوريا تمنحها أوراق ضغط فعالة ضد النظام الإقليمي القائم. كما أن تقاربها مع روسيا والصين يضعها في موقع متقدم داخل المعسكر العالمي المناوئ للغرب. إن التصعيد الحالي مع إسرائيل قد لا يكون سوى أول فصول صراع طويل، يعيد تعريف موازين القوى في القرن الحادي والعشرين.
خاتمة
إن حصر الصراع بين إيران وإسرائيل في نطاقه الإقليمي يضيّع البعد الأعمق للمسألة. فنحن أمام مواجهة تمثل انعكاسًا لتغيرات هيكلية في النظام العالمي، وصدامًا بين مشروع إمبريالي آيل للأفول وقوى صاعدة تسعى لإعادة رسم خريطة الحكم الدولي.
تداعيات هذا الصراع ستتجاوز حدود الشرق الأوسط، لتؤثر في مسارات السياسة العالمية، والأمن، والاقتصاد، والقانون الدولي. لذا، فإن إدراك الطبيعة المتعددة الأبعاد لهذا الصراع بات ضرورة لفهم رهانات المستقبل—ليس فقط في الشرق الأوسط، بل في مستقبل النظام العالمي برمّته.
نبذة عن الكاتب
د. مسيح الدين إنعام الله، باحث ومحلل سياسي متخصص في العلاقات الدولية وشؤون الشرق الأوسط والدراسات الاستراتيجية العالمية. يكتب بانتظام في قضايا الجغرافيا السياسية، وإعادة تشكيل النظام العالمي، وتقاطعات الدين والسياسة الدولية.

